فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة الليل:

إحدى وعشرون آية مكية.

.تفسير الآيات (1- 21):

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
{واليل إِذَا يغشى} المغشي، أما الشمس من قوله {واليل إِذَا يغشاها} [الشمس: 4] أو النهار من قوله {يغشى اليل النهار} [الأعراف: 54] أو كل شيء يواريه بظلامه من قوله {إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] {والنهار إِذَا تجلى} ظهر بزوال ظلمة الليل {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خق الذكر والأنثى من ماء واحد، وجواب القسم {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} إن عملكم لمختلف وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره {فَأَمَّا مَنْ أعطى} حقوق ماله {واتقى} ربه فاجتنب محارمه {وَصَدَّقَ بالحسنى} بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله {فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى} فسنهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه ربه {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بماله {واستغنى} عن ربه فلم يتقه أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى {وَكَذَّبَ بالحسنى} بالإسلام أو الجنة {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد، أو سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار.
{وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} ولم ينفعه ماله إذا هلك، وتردى تفعّل من الردى وهو الهلاك، أو تردى في القبر أو في قعر جهنم أي سقط {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} فلا يضرنا ضلال من ضل ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق {فَأَنذَرْتُكُمْ} خوفتكم {نَاراً تلظى} تتلهب {لاَ يصلاها} لا يدخلها للخلود فيها {إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} إلا الكافر الذي كذب الرسل وأعرض عن الإيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا} وسيبعد منها {الأتقى} المؤمن {الذى يُؤْتِى مَالَهُ} للفقراء {يتزكى} من الزكاء أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً لا يريد به رياء ولا سمعة، أو يتفعل من الزكاة و{يتزكى} إن جعلته بدلاً من {يؤتى} فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلاة لا محل لها، وإن جعلته حالاً من الضمير في {يؤتى} فمحله النصب.
قال أبو عبيدة: الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن لأنه لا يختصر بالصلى أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى}، لأن التقي يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وقيل: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيها، فقيل {الأشقى} وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: هما أبو جهل وأبو بكر.
وفيه بطلان زعم المرجئة لأنهم يقولون لا يدخل النار إلا كافر {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ} أي وما لأحد عند الله نعمة يجازيه بها إلا أن يفعل فعلا يبتغي به وجه ربه فيجازيه عليه {الأعلى} هو الرفيع بسلطانه المنيع في شأنه وبرهانه، ولم يرد به العلو من حيث المكان فذا آية الحدثان {وَلَسَوْفَ يرضى} موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه وهو كقوله تعالى لنبيه عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].

.سورة الضحى:

مكية وهي إحدى عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
{والضحى} المراد وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس. وإنما خص وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجداً، أو النهار كله لمقابلته بالليل في قوله {واليل إِذَا سجى} سكن، والمراد سكون الناس والأصوات فيه، وجواب القسم {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} ما تركك منذ اختارك وما أبغضك منذ أحبك والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال المشركون: إن محمداً ودعه ربه وقلاه، فنزلت. وحذف الضمير من {قلى} كحذفه من الذاكرات في قوله: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35]، يريد والذاكراته ونحوه: {فاوى}، {فهدى}، {فأغنى} وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي ما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود والخير الموعود خير مما أعجبك في الدنيا، وقيل: وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك لتقدمه على الأنبياء وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك.
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك {فترضى} ولما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: «إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار» واللام الداخلة على (سوف) لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، ونحوه لأقسم فيمن قرأ كذلك لأن المعنى لأنا أقسم، وهذا لأنها إن كانت لام قسم فلامه لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون لام الابتداء، ولامه لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر فلابد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا، كذا ذكره صاحب الكشاف. وذكر صاحب الكشاف هي لام القسم، واستغنى عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم لا لام الابتداء، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على (سوف) لأن لام الابتداء لا تدخل على (سوف)، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر.
ثم عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} وهو من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولاه، والمعنى ألم تكن يتيماً حين مات أبواك {فاوى} أي فآواك إلى عمك أبي طالب وضمك إليه حتى كفلك ورباك {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} أي غير عالم ولا واقف على معالم النبوة وأحكام الشريعة وما طريقة السمع {فهدى} فعرفك الشرائع والقرآن.
وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فرده إلى القافلة. ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غي فقد كان عليه الصلاة السلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان {وَوَجَدَكَ عَائِلاً} فقيراً {فأغنى} فأغناك بمال خديجة أو بمال أفاء عليك من الغنائم {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه {وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فلا تزجره فابذل قليلاً أو رد جميلاً. وعن السدي: المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} أي حدث بالنبوة التي آتاك الله وهي أجل النعم، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع والله أعلم.

.سورة الشرح:

مكية وهي ثمان آيات.

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
{ألم نشرح لك صدرك} استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ولذا عطف عليه {وضعنا} اعتباراً للمعنى أي فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل، وعن الحسن: مليء حكمة وعلماً {صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل: هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها ووضعه عنه أن غفر له، والوزر: الحمل الثقيل {الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ورفع ذكره أن قرن ذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [محمد: 33] [التغابن: 12]. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]. {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وفي تسميته رسول الله ونبي الله ومنه ذكره في كتب الأولين. وفائدة لك ما عرف في طريقة الإبهام والإيضاح لأنه يفهم بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} أن ثم مشروحاً، ثم أوضح بقوله {صَدْرَكَ} ما علم مبهماً وكذلك {لَكَ ذِكْرَكَ}، و{عَنكَ وِزْرَكَ}.
{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي إن مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسراً بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم. ثم قال: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً، وجيء بلفظ (مع) لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب، وإنما قال عليه السلام عند نزولها: «لن يغلب عسر يسرين» لأن العسر أعيد معرفاً فكان واحداً لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليسر أعيد نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى إن مع العسر يسرين. قال أبو معاذ: يقال إن مع الأمير غلاماً إن مع الأمير غلاماً، فالأمير واحد ومعه غلامان. وإذا قال: إن مع أمير غلاماً وإن مع الأمير الغلام، فالأمير واحد والغلام واحد. وإذا قيل: إن مع أمير غلاماً وإن مع أمير غلاماً فهما أميران وغلامان كذا في (شرح التأويلات).
{فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} أي فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، واختلف أنه قبل السلام أو بعده، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدد عليه نعمه السالفة ومواعيده الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض ولا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى {وإلى رَبّكَ فارغب} واجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [إبراهيم: 11].

.سورة التين:

مكية وهي ثمان آيات.

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}
{والتين والزيتون} أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة، روي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» وقال: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» وقال: «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو تينكم هذا وزيتونكم هذا، وقيل: هما جبلان بالشام منبتاهما {وَطُورِ سِينِينَ} أضيف الطور وهو الجبل إلى سينين وهي البقعة ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب {وهذا البلد} يعني مكة {الأمين} من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وأمانته أنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والأولياء، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه، والطور: المكان الذي نودي منه موسى، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد نبينا ومبعثه صلوات الله عليهم أجمعين. أو الأولان قسم بمهبط الوحي على عيسى، والثالث على موسى، والرابع على محمد عليهم السلام.
وجواب القسم {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} وهو جنس {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أي ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار، أو أسفل من أهل الدركات، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشننّ جلده وكلّ سمعه وبصره، وتغير كل شيء منه، فمشيه دليف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ودخل الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين اللغتين، والاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منقطع أي ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى والزمنى فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة. والخطاب في {فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للإنسان على طريقة الالتفات أي فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع بالجزاء؟ والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوى، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كله لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل؟ ف (ما) بمعنى (من) {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله وهو من الحكم والقضاء والله أعلم.